«بالنسبة إليّ، كلّ لقطة هي كائن حيّ له تنفّسه الخاصّ المكوَّن من شهيق وزفير. هذه العملية لا يمكن أن تقبل تدخّلي، أسمح للوقت أن يتنفّس أثناء التصوير. أُصوّر كما أتنفّس».
ضمن سلسلة «الموسوعة السعودية للسينما» صدر كتاب مهمّ عن المخرج ثيو أنجلوبولس، بترجمة محمد هاشم عبد السلام. يُعدّ هذا الكتاب الثاني عن هذا المخرج الفذّ بعد كتاب «عالم ثيو أنجلو بولس السينمائي: براءة التحديقة الأولى» الذي أعدّه وترجمه الكاتب البحريني أمين صالح.
وداعاً ثيو، يوم فاضت روحك إلى الداخل. في ذلك العام، كانت اليونان تحت حكم الدكتاتور ميتاكساس، وغزا الإيطاليون اليونان. في الغزو إمّا صراخ أو صفير. السالب الذي ظلّ عالقاً في المخيّلة مشهد الجنود الألمان وهم ينسحبون من أثينا، تماماً كما ستتكوّن فيما بعد في فيلم «رحلة إلى كيثيرا». تسكن مخيّلتك تلك المراحل من الفزع واللهو والتمرّد، قبل أن يرتطم جسدك ليلة أمس بدراجة أرعن وأنت تُصوّر فيلمك الأخير «عالم خفي» في ليلة الرابع والعشرين من شباط عام 2012. كان على ذلك الولد الأرعن أن ينتظر قليلاً حتى تُفصح لنا ماهيّة هذا العالم الخفي.
هي البدايات، ومحاولة فهم القانون. لكن المشكلة هي: كيف يمكن الدفاع عن الناس؟ تلك علّة كبيرة، لذا كان هجران القانون والاتجاه إلى السوربون لدراسة الأدب. لكن يظلّ هاجس السينما يتراقص مثل امرأة تحلّق بفستان واسع.
في معهد الإيدك: (لم أتخرّج من معهد الإيدك، بل تمّ طردي عند نهاية العام الأوّل، والسبب المشاكسة وعدم الخضوع للضوابط). ما هي الضوابط التي يمكن أن نخضع لها؟ هل نجلس ونستمع ونشاهد دون أسئلة أو احتجاج؟ عملاً بنصيحة مدير المعهد بعدم البداية بفيلم طويل، تكون التجربة ناضجة ومركّزة أكثر حينما يكون الفيلم قصيراً. «جان روش» أول الحلقات، وفيلم على النفقة الخاصة. أصحابه في المعهد، كلّ حسب تخصّصه، يعمل مرشداً للنظّارة في فرنسا فقط من أجل أن يشاهد أكبر كمّية من الأفلام.
فيلمه المهمّ في عام 1972 هو «أيام 36». من ملابسات الواقع استلهم الموضوع، أثناء خراب العالم وانشغاله بالحروب. سجين له ميول شاذّة، أودع السجن بسبب جريمة قتل لسياسيّ نقابيّ، حينما يزوره رجل من البرلمان يضع المسدّس المهرَّب في صدره ويتّخذه رهينة مقابل الإفراج عنه. إنّه فساد لرجال جاؤوا بعد الأزمات، لذلك تجدهم فاسدين. هنا يعلن المخرج عن هويّته ومشروعه السينمائي الذي سيستمرّ حتى رحيله.
اللقطات الطويلة التي تستمر أحياناً لعشر دقائق، وهذا ما جعل البعض يتّهمه بتأثّره بالمخرج الهنغاري ميلوش يانكو. (يانكو ليس الوحيد الذي عمل في أفلامه بلقطات طويلة، إنّه توظيف قائم منذ بدايات السينما). في بعض أفلامه، الرحلة تبدو واضحة وجليّة من العنوان الرئيس. في «رحلة إلى كيثيرا»، هناك جزيرة لا يمكن بلوغها أبداً، لعلّها تشبه تلك الرحلة التي قادها تاركوفسكي في فيلمه الرائع «ستاكر». ولعلّه يقود ذلك الشيوعي العجوز العائد من منفاه في الاتحاد السوفييتي، فلا يجد وطناً صالحاً للعيش في فيلم «منظر في السديم»، ليس فقط عن طفلين يبحثان عن والديهما، إنّها رحلة اكتشاف الحياة، المكان، والأذى الذي تسبّبه. إنّها رحلة نتعرّف فيها على الحياة، وماذا يمكن لها أن تمنحنا.
في فيلمه الرائع والمهمّ «تحديقة يوليسيس»، هناك حوار يقوم بين البطل ثيو الذي يعبر الحدود ليصل إلى البلقان: «اعتدت أن أحلم بأنّ هناك نهاية للرحلة، أليس هذا غريباً؟ عندما خلق الربّ الكون، فإنّ أوّل ما خلقه هو الأسفار». هناك امتداد للرحلة في الميثيولوجيا اليونانية، ولعلّ حكاية أغاممنون ويوليسيس دليل على عودتهما من الحرب والبحث عن الوطن، البيت.
ثيو لا يخضع للضوابط المعروفة من السرد. حينما يروم إنجاز فيلم له، فإنّه لا يتبع الخطّ الذي يتبعه الجميع من البداية حتى النهاية. إنّها فقط صور تترى ولا تخضع للتسلسل. ممكن أن تكون هناك صورة تأتي في المنتصف أضعها، ثم ما لبثتُ أن أضع صورة أخرى في النهاية. هذا «اللانظام» في وضع السيناريو يضعه خارج المألوف ويمنحه حرّية كبيرة في الإعداد.
جُمل قصيرة وقليلة، نادراً ما نشاهد حواراً في أفلامه. الهنغاري بيلا تار وهو يشترك معه تقريباً في هذه الصفة: الجمل القصيرة والقليلة.
عن الموسيقى وعلاقته المهمّة مع المؤلفة إيليني كَرندورو، مؤلفة موسيقى أغلب أفلامه، يقول: «علاقتي بإيليني رائعة وقريبة جداً. في البداية، أحكي لها السيناريو، وتقوم هي بتسجيل ما أسرده لها.
عادة لا ترغب في قراءة السيناريو، إنّها فقط تتبع نبرات صوتي وانفعالاتي أثناء الحديث. بعد الحوار تذهب وتجلس لوحدها وتصغي بدقّة إلى كلامي معها، ثم تقوم بالارتجال.
تجلس إلى آلة البيانو وتعزف، وحينما يعلق شيء ما بأذني أطلب منها أن تعيد المقطع مرة أخرى، وحينما نصل إلى النهاية أجد أنّنا توصّلنا إلى مسار صحيح. الأكورديون في فيلم (تحديقة يوليسيس) كان بطلب خاصّ منّي، وما أروع ذلك المشهد الذي لن تُغادره الذاكرة: تمثال لينين مطروح فوق العبّارة على نهر الدانوب. هي وأنا نحاول أن نخلق نوعاً من الحساسية الموسيقية للفيلم الذي أنوي إنجازه».
أنجز ثيو أنجلو بولس أفلاماً قليلة، لكن على هذه القلّة فإنّها شكّلت زمناً لا يمكن للذاكرة أن تغادره أو تنساه على الإطلاق. أفلامه هي:
(إعادة إعمار – 1970، أيام 36 – 1972، الممثلون الجوالون – 1975، الصيادون – 1977، الإسكندر العظيم – 1980، رحلة إلى كيثيرا – 1984، مربّي النحل – 1986، منظر في السديم – 1988، خطوة اللقلق المعلّقة – 1991، تحديقة يوليسيس – 1995، الأبدية ويوم واحد – 1998 (جائزة كان الكبرى)، ثلاثية المرج الباكي – 2004، غبار الزمن – 2008).
مقداد عبد الرضا
				
                    
                    
					
					
					
					
					
Add comment